بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

         هذه عروض دراسية تتناول جوانب من تراث الأندلس في بعض أبعاده التاريخية والأدبية والفنية. وقد ضممتها – على ما بينها من تنوع وتفاوت – وجعلت لها عنوانا هو "صبابة أندلسية".

 

         وإنه لعنوان ذو دلالة في ذهني، لعلها أن تكون في ذهن القارئ كذلك، توحي بها "الصُّبابة" – بضم الصاد – إذ تعني في مفهومها الحقيقي ذلكم الشيء اليسير الذي يبقى في الإناء بعد الشراب بمقدار ما يمكن صبه. وهي عندي، في معناها المجازي المساير للسياق الذي أقصد إليه، ترمز إلى ما تبقى من الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، مما يتصاببه العرب والمسلمون، متلذذين منتشين تارة بما خلفوا في هذا الإقليم من حضارة وثقافة، وآسين أسفين تارة أخرى على الفردوس الذي فقدوه.

 

         وإن هذا المدلول ليلتقي في الإطار الموحى به مع ما تعنيه "الصَّبابة" – بفتح الصاد – من حيث هي هوى رقيق وولع شديد ما انفك العرب والمسلمون يبدونهما نحو الوطن المضيع ؛ فكلهم به صب مشتاق، وإن من رؤى متباينة تجعلهم يختلفون أحيانا ويتناقضون إلى حد استحسان القبيح واستقباح الحسن.

 

         وقد ارتأيت أن أتخير هذه الدراسات وأنتخبها من كتابات أندلسية عندي كثيرة، مراعيا أن تكون في بعضها متصلة بالمرابطين، وأن تكون في بعضها الآخر دالة على مدى ما أدركته الأندلس في مجالات أخرى، كالتسامح الديني والموسيقى وامتداد النفوذ، مما لم يكن ليتسنى وجوده واستمراره مع المرابطين وبعدهم، لو كان هؤلاء كما زعم خصومهم القدماء والمحدثون.

 

         كما ارتأيت أن أهدي هذه العروض إلى روح يوسف بن تاشفين، اعترافا بالدور العظيم الذي قام به في الغرب الإسلامي، وإعرابا عن التجاوب الذي لي مع شخصيته الإنسانية والقيادية وما أكنه له من تقدير كبير، ثم إنصافاً  له من الحيف الذي تعرض له اسمه على امتداد التاريخ وما زال يتعرض له كلما ذكر أو ذكرت دولة المرابطين، لا سيما حين يثار اتجاهها الفقهي ودورها في الأندلس وما كان لابن تاشفين مع أمراء الطوائف وابن عباد على الخصوص.

 

         وليس هذا الموقف مني وليد اليوم، فقد سبق لي في نفس الاتجاه أن نشرت عن "قضية المعتمد بن عباد" و "التيار الفقهي المرابطي ومدى تأثيره على الفكر والأدب"، وإنما حثتني اليوم على تجديد إثارته بعض الأصداء التي بلغت عن عقد مهرجان المعتمد بن عباد في مراكش أوائل هذا الشهر بمناسبة مرور تسعمائة عام على وفاته، والتي تذكر بما كان يروجه المستشرقون ومقلدوهم من منطلقات أصبحت اليوم متجاوزة بما قطع البحث العلمي من أشواط. وهي منطلقات ترفضها نزاهة الفكر واستقامته وموضوعية البحث العلمي، ويرفضها منطق التاريخ الذي جعل ابن تاشفين يتصرف تحفزا لإصلاح يسعى لتحقيقه على أساس رؤية إسلامية تراعي نشر الدعوة وتوحيد الأمة بكل ما يقتضيان من مواقف جهادية قوية واستقامة سلوكية تبدأ من القائد لتنعكس على الدولة، وتحارب كل مظاهر التفسخ والتحلل والخيانة. وبناء على هذا المنطق قاد ابن تاشفين حركته التصحيحية في الأندلس، مما أتاح لهذا الإقليم أن يستظل بلواء العروبة والإسلام أربعة قرون أخرى بعد أن كاد يلفظ أنفاسه. وهذا لا شك مما ينبغي أن يتجاوب معه كل عربي ومسلم يعتز بتاريخه، غير متهافت على التملص من حقائقه ووقائعه كما حدثت في وقتها وحسب سياقها والبواعث عليها، وغير ساع إلى إخفائها أو تزييفها ظنا أن في ذلك إظهارا للتسامح والرغبة في الحوار مع الآخر، والأمر ليس كذلك بأي حال.

 

         ويرفض تلك المنطلقات كذلك حس المغاربة الوطني وما يخالجهم من مشاعر الاعتزاز بالدولة المرابطية التي ركزت دعائم الاستقرار السياسي والأمن الفكري، وثبتت العقيدة وأرست وحدة المذهب التي كان لها أثر كبير في التئام المغاربة ؛ ومعها أرست كذلك وحدة التراب، هذه التي عمل خصوم المغرب وما زالوا يعملون بشتى الوسائل ومختلف الأساليب على المس بها، والتي أجمع المغاربة كلمتهم وأمرهم لصونها والدفاع عنها والاستماتة في سبيلها.

 

         لهذا وغيره، أهدي هذه العروض الدراسية إلى يوسف بن تاشفين، فلعلها إن ضمت إلى ما أنجزه وينجزه الباحثون المنصفون أن تكون خير رد على كل حيف مهما يكن مصدره، وأن تنبه إلى ضرورة تنظيم ندوة علمية كبرى تكريما له وتقديرا. وبالله التوفيق.

 

 

الرباط 27 رجب 1416هـ                                                      عباس الجراري

الموافق 20 دجنبر 1995م